دور فکرة النظام العام في حماية مشروعية العقد والطرف الضعيف

نوع المستند : أبحاث أصلية

المؤلف

استاذ مساعد بقسم القانون المدني، کلية الحقوق، جامعة الزقازيق، جمهورية مصر العربية

المستخلص

مقدمــــــــة
   إن فکرة وجود قواعد قانونية تحکم المجتمعات هي فکرة ملازمة لنشوء الفرد، ودخوله في الجماعة، ومما لا شک فيه أن الإنسان قد شعر منذ القدم بضرورة وضع قواعد عامة تنظم سلوکه داخل المجتمع، وعلاقته مع باقي الأفراد. - وقد بدأت معالم وضع القواعد القانونية بشکلها الحديث، تتشکل مع مطلع القرن السابع عشر، بظهور مدرسة القانون الطبيعي، على يد مؤسسها الأول الفقيه الهولندي "جروسيوس" الذي کان يرى أن العقل يفرض وجود حقوق لصيقة بالإنسان يولد مزودا بها وتحتمها طبيعة تکوينه، وهذه هي الحقوق الطبيعية أو الحقوق الفردية أو حقوق الإنسان.وقد تأيد هذا المذهب باتجاه آخر کان معاصراً ومصاحباً له طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويتمثل في نظرية العقد الاجتماعي[1]  ، التي کان لها هدف سياسي واضح يتمثل في إحلال الحکم الديمقراطي محل الحکم الفردي، والتي انتهت بقيام الثور الفرنسية التي حملت شعار الدفاع عن الحريات والحقوق الطبيعية للإنسان٠ وقد کان مقتضى هذه الأفکار أن يتنازل کل فرد من أفرد المجتمع على قدر من حريته حتى يتمکن الجميع من أن يتمتعوا بحريتهم على قدم المساواة، وهذا يستدعي وجود قواعد موضوعية مقدماً يستهدي بها الأفراد في سلوکهم ومعاملاتهم، إلى جانب وجود سلطة عامة تمثل هذا المجتمع، وتستطيع بما لها من قوة ووسائل إکراه، أن تجبر الأفراد على احترم هذه القواعد، بغية تحقيق النظام والعدل والأمن في المجتمع. إن فکرة النظام العام من الأفکار التي تتصف بالعمومية، حيث تسود جميع فروع القانون، وتلعب دوراً ذو أهمية بالغة في النظام القانوني بأکمله[1]، فتطبيقاتها بالقوانين المختلفة  تختلف بإختلاف ماهية وطبيعة کل فرع من فروع هذه القوانين والغرض الذي شرعت من أجله. [2]  حيث تعتبر فکرة النظام الأفکار المحورية في النظام القانوني، وتتجلى محورية هذه الفکرة من خلال الحاجة الماسة لکي يتمکن التشريع من القيام بالمهام الموکولة إليه، وتحقيق الغرض الذي من اجله وجد، لذلک أخذت هذه الفکرة مکاناً لها في کل فروع القانون.[3]   
کما أن فکرة النظام العام هي صمام الأمان للنظام الاجتماعي من أي اعتداء على الأسس  التي يقوم عليها سواء کانت ثقافية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، کما أنها تمثل الشرعية لأي مجتمع نحو تحقيق أهدافه، فهي التي تدفع المجتمع تحو التقدم والازدهار حسب القيم التي يعتقدها والأسس التي يقوم عليها ويدين بها .
و نجد أن تعريف فکرة النظام العام يختلف في مجال القانون العام عنه في مجال القانون الخاص، فقد عرفه فقهاء القانون العام  "بأنه ما يتحتم على الإدارة صيانته والحفاظ عليه إثناء قيامها بالوظيفة الأساسية المسندة إليها وهي الضبط الإداري، من حيث توفير الأمن والسلامة العامة، و الحفاظ على الصحة والسکينة العامة للمجتمع"  [4].
أما بالنسبة لتعريف فکرة النظام العام الذي ساقه فقهاء القانون الخاص على أنها( الأساس السياسي والاجتماعي والخلقي الذي يقوم عليه کيان الدولة کما ترسمه القوانين النافذة فيها.
 أو بعبارة أخرى هي مجموعة القواعد القانونية التي تنظم المصالح التي تهم المجتمع مباشرة أکثر مما تهم الإفراد، سواء کانت تلک المصالح سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.)
فالنظام العام هو مجموعة المصالح الأساسية للجماعة التي يقوم عليها بناء الجماعة وکيانها، بحيث لا يستتب بقاء هذا الکيان سليما دون الاستقرار عليها.
ولذلک کانت القواعد القانونية المتعلقة بالمصالح الأساسية للجماعة أي المتعلقة بالنظام العام، قواعد آمره لا تملک الإرادة الفردية إزاءها أي سلطان أو قدره على مخالفتها، إذ تعرض مخالفتها کيان المجتمع نفسه للانهيار والتصدع، فلا يسمح لأي فرد بأن تجري إرادته على خلافها.[5]
فنتعرض لدور فکرة النظام العام في مراقبة مشروعية العقد وحماية الطرف الضعيف  ، باعتبار أن  القواعد القانونية تهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من المصالح العامة ،[6]. 
و مفهوم فکرة النظام العام بالمعنى السابق، يمکن أن يتسع أو يضيق تبعاً للإتجاه السائد في المجتمع، فعندما تکون الغلبة للإتجاه الفردي في مجتمع ما يضيق مفهوم فکرة النظام العام، ويتسع في ظل المذاهب الاشتراکية.     [7]
فالحرية الفردية[8] وإطلاق سلطان الإرادة يمنع الدولة من التدخل في شؤون الفرد الخاصة مما يحد من انتشار فکرة النظام العام ويقصرها على القواعد الأساسية،أما في ظل  المذاهب الاشتراکية يتسع نطاق وظيفة الدولة، وتختفي المصالح الخاصة خلف المصالح العامة، مما يحتم بالضرورة تبعاً لذلک التوسع في تطبيق فکرة النظام العام .[9]
هذا الاتساع في نطاق فکرة النظام العام يؤدي إلى بسط نفوذها على کافة فروع القانون الأمر الذي يجعل حصر هذه الفکرة  في قالب معين أو في اتجاه معين متعذر، وذلک نظر لنسبيتها وتغيرها في الزمان والمکان، فهي فکرة تضيق وتتسع حسبما يعتقد المجموع من الناس في زمان ومکان معين، ولا يوجد قاعدة أو معيار ثابت يحدد النظام العام تحديداً مطلقاً ينطبق على کل زمان ومکان، على اعتبار أن النظام العام مفهوم نسبى ، وکل  ما في وسع المشرع ، هو وضع معيار مرن يتحدد على أساسه النظام العام، وهو ما يطلق عليه بمعيار المصلحة العامة، فحيث يتعلق الأمر بالمصلحة العامة يعد من النظام العام، وإذا ابتعد عن المصلحة العامة لا يعد من النظام العام[10].



[1]- SMORTO Guido-, « La justice contractuelle», RIDC, n° 03, 2008, p586
Eudier Frédérique, Ordre publique substantiel et office du juge, Thèse doct., dir. P. Courbe Rouen, 1994, publiée au site Internet : www.panjuris.univ-paris1.fr.
  ٠- انظر، محمد حسين عبد العال، الاتجاهات الحديثة لفکرة النظام العام ومدى الحماية الدستورية لمبدأ حرية التعاقد، دار النهضة العربية، القاهرة، 1998 ، ص. 11


[2] محمد عيد الغريب – النظام  العام في العقود المدنية ومدى الحماية التي يکفلها لها القانون الجنائي في مجال الانعقاد والتنفيذ، سنة 2005 بدون دار نشر – ص5    
  مقال منشور على
https://lawsmaster.blogspot.com/2016/12/objet3.html#more
https://anibrass.blogspot.com/2015/01/blog-post_90.html
http://almerja.com/reading.php?idm=76073
 Philippe Malaurie,L ordre public et Le contrat,Editions Matot- braine ,Reims,1953- N 23
Philippe Malaurie et Laurent ayes,cours de droit civil,Les obligatios,Editions cajas.1990.P.286-
n421 Reims,1953. braine  Philippe Malaurie,L ordre public et Le contrat ,Editions Ecylopedie .ordre public et Bonne Mœurs- Dalloz v.N 2- Mazeaud. Droit civil  T II .Vol .I .P.96 .N 118- Carbonnier .Droit civil .8 éditions .T .5.N 332
محمد عصفور: وقاية النظام الاجتماعي باعتباره قيداً على الحريات العامة، رسالة دکتوراه مقدمة إلى کلية الحقوق، جامعة القاهرة 1961،ص71
F.TERRÉ, P. SIMLER, Y.LEQIJE1TE, Droit civil, Les obligations, 9 éd. DALLOZ , Paris, 2005, P.204.


[3] عماد طارق البشرى -  فکرة النظام العام  في النظرية والتطبيق- دراسة مقارنة بين القوانين الوضعية  والفقه الاسلامى - المکتب الإسلامي، الطبعة الأولى، ص19.


[4] عماد طارق البشرى - مرجع سابق، ص 20 ، نقلا عن الدکتور توفيق شحاتة، مبادئ القانون الإداري ، الجزء الأول،الطبعة الأولى،1954 - 1955 ، دار النشر للجامعات المصرية، ص 332 وما بعده


[5] سليمان مرقس،: مدخل للعلوم القانونية، الطبعة الثانية، 1952، دار النشر للجامعات المصرية ص77.
سمير عبد السيد تناغو،: النظرية العامة للقانون، منشأة المعارف الإسکندرية، ص91.


[6] M.S. PAYET, Droit de la concurrence et droit dela consommation, DALLOZ, Paris, 2001, p. 121,- J.CALAIS-AULOY, FSTEINMETZ, Droit de la consommation, 5e éd, DALLOZ Paris, 2000, p216.
نجيب عبدالله نجيب- مفهوم فکرة النظام العام وتطبيقاتها – رسالة ماجستير – جامعة النجاح الوطنية  2017- ص 11 وما بعدها وأشار إلى المراجع الفرنسية الآتية
J.Ghestin .Droit civil .Le contrat .Formation .LGDJ .1988- Christian Larroument .Droit civil.T.III .Les obligations- Le contrat .2 edition Economica.1990-p34.
Ecylopedie Dalloz v . L ordre public et Bonne mœurs-N2- Mazeaud. Droit civil  T II .Vol .I .P.96 .N 118- Carbonnier .Droit civil .8 éditions .T .5.N 332-
Philippe Malaurie et Laurent ayes ,cours de droit civil Les obligatios ,Editions cajas.1990-p55


[7] عبد الرزاق احمد السنهوري،: الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، المجلد الأول، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام،منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، لبنان،2011، ص437


[8]   https://elawpedia.com/view/32/


[9] عماد طارق البشري،: مرجع سابق، ص21


[10] نجيب عبدالله نجيب- مفهوم فکرة النظام العام وتطبيقاتها- مرجع سابق- ص 13- عبد الحکم فوده – تفسير العقد في القانون المدني المصري والمقارن- منشأة المعارف الإسکندرية  2002-ص462

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية