الاختصاص الجنائي العالمي في ضوء أحکام القانون الدولي والقوانين الداخلية " دراسة مقارنة "

نوع المستند : أبحاث أصلية

المؤلف

دکتوراه فى القانون الجنائى

المستخلص

مقدمــــة
      القانون الجنائي قانوني حمائي، فهو يضطلع بحماية المصالح التي قدر المشرع جدارتها بالحماية سواء أکانت مصالح عامة أو خاصة, فضلاً عن حماية المواطنين سواء أکانوا ضحايا للجريمة أو متهمين سواء وقع الإعتداء علي تلک المصالح أو الأفراد داخل نطاقها أو خارجها علي أقليم أجنبي[1], وهو ما يسمي بالاختصاص العيني والذي تمارس الدول في نطاقة دورها في حماية مصالحها الوطنية[2].
      وقد برزت طائفة أکثر خطورة من الجرائم تقع علي مصالح حيوية لا تتوقف أهميتها عند دوله بعينها بل تهم المجتمع الدولي کله لما تشکله من خطورة, بما أوجب تتضافر المجتمع الدولي کله لکفالة الحماية الجنائية لهذه المصالح وضمان عدم إفلات مرتکبيها من العقابي عن طريق إنعقاد الأختصاص للقضاء الوطني بنظرها دون التقييد بأي قيود تفرضها قواعد الأختصاص[3].
      فالأختصاص العالمي حق أصيل للقضاء الوطني إذا نص عليه في التشريع الداخلي بوصفه جزء من نظامها الداخلي, فيصبح إلتزاماً علي القضاء الوطني الأخذ به عندما يتعلق الأمر بجرائم محدده بذاتها. وقد قضت محکمة العدل الدولية الدائمة في قضية Lotus سنة 1927 بأنه: من حق کل دولة اختيار قواعد الاختصاص التي تلائمها, وأنه لا يوجد في القانون الدولي ما يمنع الدول من تحديد اختصاصها الإقليمي بما يتوافق مع مصالحها[4]. وهو ما أنتجه المشرع الفرنسي في المادتين 689, 689 مکرر1 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي. کما نصت المواد من 6 إلي 11 والمادة 12 مکرر من قانون الإجراءات البجيکي علي الاختصاص العالمي للقضاء البلجيکي فيما يخص جرائم الحرب, وجريمة الإبادة, والجرائم ضد الإنسانية[5]. وکذلک فعل المشرع السويسري والألماني[6]. وهو ما سوف تناوله تفصيلاً في هذا البحث.
      کما نظم القانون الدولي عبر الاتفاقات الدولية آلية الاختصاص الجنائي العالمي, والذي بموجبه تختص الدولة بمسائلة الأشخاص المتهمين بإرتکاب جرائم دولية خطيرة, دون الاعتداد بمعايير الأختصاص[7]. فالدولة التي تقبض علي الشخص المتهم بإرتکاب جريمة دولية, يمکنها محاکمتة حتي ولو کان أجنبياً أو أرتکبت الجريمة علي أقليم دولة أجنبية وضد أشخاص أجانب[8], ويطلق بعض الفقة عليه "عالمية الحق في العقاب"[9].
       ومن ثم, فإن الاختصاص الجنائي العالمي يفترض أن الدولة لا ترتبط بالجريمة بأي من قواعد الأختصاص السابقة, بل ينعقد الأختصاص علي مصلحة أسمي وهي المصلحة المشترکة للجماعة الدولية والتي تجد مرتکزها في حماية البشرية من طائفة من الجرائم برزت خطورتها بتهديدها للجماعة البشرية[10]. ولذا يجد الأختصاص العالمي سنده بوصفة الوسيلة القانونية التي تضع حداً لفلات بعض الجناة من العقاب رغم خطورة الجرائم التي ارتکبوها, وتبرز التضامن الدولي في مواجهة الجرائم التي تقع علي الحقوق الأساسية للإنسان, فالمصلحة المحمية لا تهم جماعة دون أخري بل تهم الجماعة الدولية مجتمعة[11].
      واعمال المبدأ يقتضي ابتداً تحديد طائفة الجرائم التي ينعقد بشأنها الأختصاص الجنائي العالمي, وهو ما أهتم القانون الدولي بتحديد الجرائم التي ينعقد الأختصاص بشأنها وسماها الجرائم الأکثر خطورة وهي جرائم الحرب, جرائم إبادة الجنس البشري[12], الجرائم ضد الإنسانية, والجرائم الواقعة علي الحقوق الأساسية للإنسان[13]. وقد نصت لائحة مجلس الأمن رقم 1265 الصادرة بتاريخ 17/9/1999 علي أنه: يقع علي عاتق الدول وضع حد للاعقاب ومتابعة الأشخاص المسئولين عن جرائم إبادة الجنس البشري والجرائم ضد الإنسانية والإنتهاکات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
      ومن ثم, يقوم أساس الردع لهذه الطائفة من الجرائم الدولية علي قواعد تکفل القانون الدولي بتنظيمها[14], بينما يرتبط إنفاذها بالقواعد التي تضمنها القانون الداخلي للدولة[15]. وهو يوجب اتخاذ الدول الإجراءات التشريعية اللازمة لتنظيم قواعد الأختصاص العالمي ضمن قوانينها الداخلية بما يکفل اسناد الاختصاص الجنائي العالمي للقضاء الجنائي الوطني, من منطلق أن الالتزام بحماية القيم الأساسية للجماعية الدولية قاعدة آمره في القانون الدولي لا يجوز مخالفتها[16].
     ويعتبر الفقيه "جروسيوس" أول من أعطي نظرية الاختصاص العالمي القيمة الفلسفية والقانونية[17], والذي أسس لمبدأ "عالمية الحق في الحق"[18], لمواجهة تلک الطائفة من الجرائم التي تشکل انتهاک لقانون الشعوب[19]. بإعتبار أن هذه الجرائم تشکل انتهاکاً للقانون الطبيعي الذي يتميز بأنه قانون غير مکتوب وجد قبل الإنسان وراسخ في الضمير الإنساني[20]، وأي انتهاک له يشکل مساساً بالإنسانية، لذا فإن الالتزام بمتابعة أو معاقبة مرتکبي هذه الجرائم التي يتضمنها هذا القانون هو التزام عالمي تمارسه الدولة التي يتواجد على إقليمها المتهم عن طريق قاعدة التسليم أو العقاب[21].
     ولهذا أکد النظام الأساسي للمحکمة الجنائية الدولية علي وجوب تدخل الدول بتعديل تشريعاتها بما يکفل مواجهة الجرائم الخطيرة خاصة أن المحکمة الجنائية الدولية لها دوراً مکملاً في محاکمة مرتکبي جرائم القانون الدولي[22], علي نحو ما نصت المادة الأولي من نظام روما الأساسي للمحکمة الجنائية الدولية بقولها (... وتکون المحکمة مکملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية...), وکذلک مانصت عليه والمادة 17 بفقراتها الثلاثة ( أ, ب, ج ):
أ ) إذا کانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية عليها, مالم تکن الدولة حقاً غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلک.
ب) إذا کانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني, ما لم يکن القرار ناتجاً عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها حقاً على المقاضاة.
ج) إذا کان الشخص المعني قد سبق أن حوکم على السلوک موضوع الشکوى, ولا يکون من الجائز للمحکمة إجراء محاکمة طبقاً للفقرة 3 من المادة 20.
    وهو ما يکشف بدورة علي أن الأختصاص المنعقد للمحکمة بدوره أختصاص مکمل وليس أختصاص أصيل للقضاء الوطني. فإذا کانت قواعد الأختصاص طبقاً لمبدأ الأختصاص العالمي للقضاء الجنائي تجيز بدورها لدولة مواجهة هذه الجرائم متي نظم القانون الداخلي لها طرق المواجهة قانوناً, فإن إتصال القضاء بالوقائع يحول دون نظر المحکمة الجنائية الدولية لها, فالنص الوارد بالنظام الأساس للمحکمة الجنائية الدولية وأن جاء مخصص للقضاء الوطني إلا أنه ليس به ما يقيد مبدأ الأختصاص العالمي للقضاء الجنائي, ومن ثم فإن اتصال القضاء الوطني بالجرائم استناداً للمبدأ يحول دون اختصاص المحکمة الجنائية الدولية, وأن الأحکام الصادرة في الجرائم تحول دون إعادة نظرها أمام المحکمة. 



[1]- Angelos Yokaris: La répression pénale en droit international public, éd, Bruylant, Bruxelles, 2005. p. 68


[2]- Bert Swart: La place des critères traditionnels de compétence dans la poursuite des crimes internationaux, in: Juridictions nationales et crimes internationaux, Ouvrage collectif, Antonio Cassese, Mireille Demas- Maty (S/D), 1er édition, Presses Universitaires de France.2002. p. 567.


[3]-Grégory Berkovicz: La Place de la cour pénale Internationale dans la société des Etats, éd. L’harmattan, Paris, 2007, p. 208.


[4]- Grant (Ph): Les poursuites nationales et la compétence universelle, in Kolb (R) et autres, Droit international pénal, édition Helbing et Lichtenhahn, Bale, Bruylant, Bruxelles, 2008, p. 455.


[5]- Art 12 Bis C. I. C. B (http://www.droitbelge.be/codes.asp#pen): « [Hormis les cas visés aux articles 6 à 11, les juridictions belges sont également compétentes] pour connaître des infractions commises hors du territoire du Royaume et visées par une [règle de droit international conventionnelle ou coutumière] ».


[6]- د. طارق سرور: الاختصاص الجنائي العالمي, دار النهضة العربية, 2006, ص 199.


[7]- N. Bailleux: La Compétence universelle au carrefour de la pyramide et du réseau, De l'expérience belge à l'exigence d'une justice pénale transnationale, Bruylant., 2005, p. 18.  F. Biguma Nicolas: La reconnaissance conventionnelle de La compétence universelle des tribunaux internes à L’ègard de certains Crimes et Délits,Thèse de Doctorat en Droit, B U , Nantes Section Droit Eco, Publiée de 17 Septembre 1998, pp. 35 -38.


[8]- A. Garapon: De Nuremberg au TPI: Naissance d’une justice universelle? Critique Internationale, Presses de sciences politique, France N°5, 1999, p. 167. A. Huet, R. Koering – Joulin: Droit pénal international, P. U. F, Paris 1994, p. 62. H. Donnedieu DE Vabres: Le système de la répression universelle, ses origines historiques, ses formes contemporaines, R. D. I. P. D. P. I, 1923, p. 530.


[9]- د. طارق سرور: المرجع السابق, ص25 – 26.


[10]- Marie-Pierre Dupuy: Crimes et immunités, ou dans quelle mesure la nature des premiers empêche l’exercice des secondes, Revue générale de droit international public, Tome 103, N°2, 1999. p. 293. Maison Rafaëlle: «Les premiers cas d'application des dispositions pénales des Conventions de Genève par les juridictions internes», European Journal of International Law, 1995, p. 270. Isabelle Moulier: La compétence pénale universelle en droit intentionnel, Thèse soutenue le 14 décembre 2006 à l'Université Paris 1, p .456 A. demola: “The International Criminal Court and Universal Jurisdiction”, International Criminal Law Review, 2006, p. 369.


[11]- Néel: La judiciarisation internationale des criminels de guerre: la solution aux violations graves du droit international humanitaire? in: Revue Criminologie, Vol .33. N°2, 2000, p. 160.


[12]- Condorelli (L): Présentation de la 2éme partie, in Ascensio (H), Decaux (E), Pellet (A)
(s. dir), Droit international pénal, Pedone, Paris, 2000, pp. 242 -243.


[13]-  I. D. I, Rés., Session de Cracovie 2005., art 3: « La compétence universelle peut être exercée en cas de crimes internationaux identifies par le droit international comme relevant de cette compétence dans les matière telles que le génocide, les crime contre l’humanité, les violations graves des convention de Genève de 1949 sur la protection des victimes de guerre, ou d’autres violations sérieuses du droit international humanitaire commises durant un conflit armé international ou non international ».


[14]- Garapon (A): De Nuremberg au TPI, Op. Cit, p. 178.


[15]-Isabelle Fichet-Boyle, Marc Mosse: L’obligation de prendre des mesures internes nécessaire à la prévention et à la répression des infraction, in: Droit international pénal, Ouvrage collectif, Hervé Ascension Emmanuel Decaux, Alain Pellet ( S/D ), Centre de droit internationale, Université de Paris, éd A.Pédone, Paris, 2000, p. 882.


[16]- I.D.I, Rés: Session de Cracovie 2005, Les Obligations Erga Omnes, en droit international. Premier Considérant, (En vertu du droit international certaines obligations s’imposent à tous les sujets du droit international dans le but de préserver les valeurs fondamentales de la communauté Internationale).


[17]-H. Donnedieu DE Vabres: Introduction à l’étude du droit pénal international, Paris, Sirey, Dalloz, 1922, p. 183.


[18]- Gilbert Guillaume: La Cour international de justice a l’aube du XXIème siècle (Le regard d’un juge), éd. A. Pedone, Paris, 2003. pp. 223-224. F. Biguma Nicolas: op. cit, pp. 5-14. M. Henezlin: Le Principe de l’universalité en droit pénal international. Droit et obligation pour Les États de poursuivre juger selon le princie de l’universalit. Bruylant, Bruxelles, 2001, pp. 29 -119. G.Guiillaume: La compétence universelle forms anciennes et nouvelles, Mélanges offerts à George Levasseur, Litec, Paris, 1992, pp. 23-36.


[19]- يقصد بقانون الشعوب القانون الذي يضطلع بکفالة الحماية اللازمه للمصالح الحيوية للجماعة الدولية ويرتب حق لدول في ايقاع العقاب وتشکل جريمة التجسس والخيانة الحربية وجريمة القرصته صور من جرائم قانون الشعوب. د. عباس هاشم السعدي: مسئولية الفرد الجنائية عن الجريمة الدولية, دار المطبوعات الجامعية, 2002, ص13.


[20]- G. Della Morte: Les frontières de la compétence de la cour pénale international: observations Critiques. R. I. D. P, (VOL, 73), 2002, pp. 23-80.


[21]- F. Biguma Nicolas: op. cit, pp. 214-236.


[22]- راجع في أختصاص المحکمة الجنائية الدولية:
Bazelaire (J-P), Cretin (T): La justice pénale internationale, son évolution, son avenir de Nuremberg a la Haye, 1ére éd, P. U. F, Paris, 2000, pp. 13-16. Carillo-Salcedo (JO): Cour pénale internationale: l’humanité trouve une place dans le droit international, RGDIP, 1999, N°1, p. 23. Condorelli (L): La cour pénale internationale: un pas géant, pourvu qu’il soit accompli, RGDIP, 1999, N°1, pp. 15-16

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية