دور قواعد المنطق فى تکوين اليقين القضائي للقاضي الجنائي

نوع المستند : أبحاث أصلية

المؤلف

دکتوراه فى القانون الجنائي

المستخلص

مقدمــــــــة
    إن قانون الإجراءات الجنائية کما قال عنه فوستان هيليي Faustin Helie عام 1855م[1], هو القانون الذي يجب عليه الموازنة بين حقين أساسيين. أولهما, حق المجتمع في توقيع العقاب اللازم علي الخروج علي قواعده والمساس بالمصالح المشمولة بالحماية الجنائية. وثانيهما, حق المتهم بوصفه أحد أفراد المجتمع في ضمان المحاکمة العادلة من خلال ضمان حقوق الدفاع وعدم الإنتقاص منها.
     وهو ما يوجب أن تکون هذه القواعد الإجرائية ذات قوة تمکنها من إخراج الحقيقة من الوقائع المعروضة[2]. وهو ما يتطلب تنظيماً خاصاً وتمييزاً لقواعد إستخلاص الدليل في المواد الجنائية من جهة سلطة القاضي بوصفة المنوط به استخلاص هذا الدليل[3], وهو ما فطن إلية المشرع الإجرائي بمنح القاضي الجنائي سلطة واسعة لفحص وتقدير الأدلة، ضمن قواعد تتعلق بکيفية الحصول عليها, وبيان جزاء مخالفة هذه القواعد والمتمثل في إهدار قوتها التدليلية ببطلان عمل القاضي, ملزماً إياه بنفس الوقت بعدم القضاء بالإدانة إلا بناء على الجزم واليقين, مما يجعل الإثبات ذا أهمية بالغة من خلال تشدد القانون في تحديد شروط الإدانة وأثارها. ولذا ذهب البعض للقول أن دور الدعوي الجنائية يتلخص في الحکم العادل[4].
     فالهدف من المحاکمة الجنائية هو إظهار الحقيقة الواقعية[5], وهو ما يتطلب جهداً من القاضي يقتضي التوسع من سلطة التقديرية والتي يجب أن تمنح وفق ضوابط إجرائية وصولاً لليقين القضائي المبني علي الجزم واليقين باستعمال کافة الوسائل التي توصله للقناعة اليقينية المطلوبة لحکم الإدانة بالوسائل المشروعة[6].
      ويعتبر موضوع اليقين القضائي من الموضوعات المهمة التي لا يمکن الاستغناء عنها في القانون الجنائي, وهو ما يجعل الإثبات الجنائي يخضع لقواعد خاصة تميزه عن غيره في المواد القانونية الأخري[7], فهدف القاضي الجنائي هو السعي لإثبات الجريمة في حق الجاني أو نفيها, من خلال إثباته لوقائع مادية وهي الأفعال المجرمة والوسائل المستعملة في ارتکابها والأدلة التي تثبت علاقة الجاني بالجريمة، وأخرى معنوية تکمن في نفسية الجاني الداخلية والتي تشکل عمادة الرکن المعنوي للجريمة.
     ولا جدال في القول أن التشريعات الجنائية لم تعتمد على نظام الإثبات الحر إلا بعد مرورها بتجارب عديدة أثبتت أنه لا يمکن لأي تشريع مهما کان متطوراً أن يحدد بشکل مسبق أدلة إثبات قاطعة لا تترک مجالاً لأي شک. لذا وبعد المرور من عدة تجارب استقرت التشريعات الحديثة على منح القاضي سلطة تقديرية تسمح له بالتوصل لتقدير الأدلة في القضايا المعروضة أمامه وصولاً لليقين القضائي. حتي يتمکن القاضي من النطق بالحکم العادل الذي ينتظره لجميع[8], وقد کان لمحکمة النقض الفرنسية دوراً بارز في إرساء دعائم مبدأ الإقتناع القضائي الذي يشمل حرية إثبات الجرائم وفقاً لنص المادة 427 إجراءات جنائية فرنسي, والقيمة الاقناعية لعناصر الإثبات المقدمة في الدعوي ( يجوز إثبات الجرائم بکافة طرق الإثبات), ويحکم القاضي وفق إقتناعه الشخصي[9].
     وفي تقديري, أن العلاقة بين اليقين والحقيقة والإقتناع هي علاقة تکامل، بمعنى أن القاضي الجنائي يبدأ في تکوين إقتناعه للوصول إلى المرحلة اليقينية لإصدار حکمه بهدف الکشف عن الحقيقة الواقعية التي هي ضالة العدالة وهدفها المنشود. ونشير إلى أن هناک فرق بين الإقتناع والاعتقاد، فهذا الأخير يعتمد على التقدير الشخصي للقاضي في استخلاصه لحقيقة الدعوى وهذا التقدير لا يخضع لرقابة محکمة النقض، أما الإقتناع فهو الذي يخضع للرقابة عن طريق رقابة الأسس التي أبتنت عليها هذه القناعة من واقع الحکم. وبالتالي فالإقتناع هو مرحلة متقدمة من الاعتقاد وهو أي الإقتناع أقرب إلى اليقين منه إلى الاعتقاد لأنه يقوم على أدلة وضعية.
      فالحقيقة في مجال القانون الجنائي والتي هي ضالة القاضي بشکل عام هي الحقيقة القضائية، ويقصد بها في تعريفها الإجرائي هي تلک التي يتم التوصل إليها بإتباع مجموعة من الإجراءات نص عليها المشرع الجنائي عبر مراحل الدعوى المختلفة[10].
      فالحقيقة القضائية وفقاً لمدلولها البسيط[11]، تعني تطابق المعرفة مع الواقع أو ما تسمى بالحقيقة الواقعية، لذا يقال أن القاضي في فحصه للدعوى فإنه يبحث عن الحقيقة الواقعية, فإذا اقتنع اقتناعاً يقينياً بإدانة المتهم فإن الحقيقة المعلنة في هذا الحکم (عنوان الحقيقة (هي إدانة المتهم وثبوت وقوع الجريمة وإسنادها إليه مما لا يدع شک في ذلک, هذا اليقين المعلن في الحکم الجنائي ليس بالضرورة هو الحقيقة المطلقة بل مجرد تطابق مضمون الحکم مع الحقيقة الواقعية.
     وأما عن اليقين اللازم في بناء الأحکام الجنائية أو ما يسمى بالإقتناع اليقيني والذي لا يأتي إلا في نطاق المعرفة العقلية والبناء المنطقي للحکم الجنائي من خلال المجهود الذي يقدمه القاضي في سعية لإستجلاء غموضها من خلال السلطة التقديرية في تحقيق وقائع الدعوي بشرط الالتزام بشرط مشروعية الدليل. ومن ثم, يجب أن يشمل الحکم على شرح کل دليل شرحاً واضحاً ووافياً, وعلى القاضي إظهار الأدلة التي اقتنع بها وسبب اعتماده على دليل معين دون دليل آخر وإلا اعتبر ذلک قصوراً في التسبيب مما قد يترتب عنه نقض الحکم[12]



[1]- Jean Pradel: Notre procédure défend-elle l’intérêt général? Revue pénitentiaire et de droit pénal, n°3, 2005, p. 503.


[2]- Pierre Bolze: Le droit a la preuve contraire en procédure pénale, These de doctorat 2010, université de Nancy2, p. 2. Sabrina Lavric: Le prin hg]gdgcipe d'égalité des armes dans le procès pénal. Thèse de doctorat en Droit, Faculté de droit, Sciences économiques et Gestion, Université Nancy 2, 2008 (La procédure pénale, la quête d’un équilibre. La procédure pénale ne doit pas être perçue comme un ensemble de règles techniques, doté d’une importance secondaire par rapport au droit pénal de fond. Au contraire, elle offre les modalités d’accès au juste, à l’équilibre retrouvé).


[3]- د. محمود نجيب حسني: شرح قانون الإجراءات الجنائية, دار النهضة العربية, طبعة 1982, ص417.
Merle(R), vitu(A): Traité de droit criminal, problèmes généraux de la législation criminelle, T1, droit pénal général,1°éd. cujas, paris 1967, p. 721. Donnedieu de Vabres(H): Traité élémentaire de droit criminel et de la législation pénale compare, éd. paris 1947, alinéa 1242. Brière de l'Isle (G), cogniart (Paul): Procédure pénale, T2 (Police instruction, jugement) éd. paris, colin 1972, p. 14.


[4]- Caroline Duparc: Le rôle respectif du juge et des parties dans le procès pénal, thèse de doctorat en droit, 2002, université de Poitiers, p .11.


[5]- د. محمد زکي أبو عامر: الإثبات في المواد الجنائية, محاولة فقهيه وعملية لإرساء نظرية عامة, الفنية للطباعة والنشر, الإسکندرية, 1985, ص6 وما بعدها.


[6]- د. آمال عثمان: الإثبات الجنائي ووسائل التحقيق العملية, دار النهضة العربية, 1975, ص4. د. محمود محمود مصطفي: شرح قانون الإجراءات الجنائية, مطبعة جامعة القاهرة, ط11, 1976, ص411. د. حسن علي حسن السمني: شرعية الأدلة المستمدة من الوسائل العلمية, رسالة دکتوراه, کلية الحقوق, جامعة القاهرة, 1983, ص 557. د. عطية مهنا: الإثبات بالقرائن في المواد الجنائية, رسالة دکتوراة , حقوق القاهرة, 1988, ص40. د. هلالي عبد اللاه: النظرية العامة للإثبات في المواد الجنائية, دراسة مقارنة بالشريعة الاسلامية, رسالة دکتوراه, حقوق أسيوط, 1984, ص 143. د. أحمد ضياء الدين خليل: مشروعية الدليل في المواد الجنائية, رسالة دکتوراه, کلية الحقوق, جامعة عين شمس, 1982, ص 239.
Merle(R), vitu(A): Traité de droit criminal, problèmes généraux de la législation criminelle, T1, droit pénal général,1° éd. cujas, paris 1967, p. 721. Donnedieu de Vabres(H): Traité élémentaire de droit criminel et de la législation pénale compare, éd. paris 1947, alinéa 1242. Brière de l'Isle (G), cogniart (Paul): Procédure pénale, T2 ( Police instruction, jugement ) éd. paris, colin 1972, p. 14.


[7]- J. Patarin: Le particularisme de la theorie des preuves en droit penal, in: Quelques aspects de lsutonomie du droit penal,sous la direction de G. Stefani, Paris, Sirey, 1956, p. 2 et s.


[8]- Caroline Duparc: Le rôle respectif du juge et des parties dans le procès pénal, thèse de doctorat en droit, 2002, université de Poitiers, p .11.


[9] -Antoine Garapon: Bien juger, Essai sur le rituel judiciaire, Edition Odile Jacob, 1997, p. 63.


[10]- د. هلالي عبد اللاه: النظرية العامة للإثبات في المواد الجنائية, المرجع السابق, ص549.


[11] - A. Fabbri, C. Quéry: La vérité dans Le process pénal ou L’air du catalogue Revue de Science Criminelle, 2009, p. 34. H. Bekaert: La manifestation de la vérité dans le process penal, Bruxelles, Etablissement Emile Bruylant, 1972, p. 10.


[12]- Etienne Vergès:«Absence de motivation des jugements et droit au double degré de juridiction sous l’angle de l’article 6 de la CEDH», observations sous CEDH 24 juillet 2007, Baucher c/ France, Revue pénitentiaire et de droit pénal, 2007-4, p. 891.
Benoît Frydman: L’évolution des critères et des modes de contrôle de la qualité des décisions de justice, étude tirée du colloque du 8 et 9 mars 2007, organise par la faculté de droit et des sciences sociales de Poitiers, p. 22  

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية